العزل الرقمي كسلاح استهداف البنية التحتية للاتصالات والإنترنت في غزة خلال الحرب

مركز الدراسات السياسية والتنموية
مقدمة
في الحروب المعاصرة، لم تعد البُنى التحتية المدنية، بما فيها شبكات الاتصالات والإنترنت، بعيدة عن دائرة الاستهداف، بل أصبحت أدوات مركزية في تكتيكات العزل والتأثير والسيطرة، ومن بين أكثر الحالات فظاعة في هذا السياق، ما يتعرض له قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حيث شنت قوات الاحتلال الإسرائيلي حرب غير مسبوقة، ترافقت مع انقطاعات متكررة وشاملة لخدمات الاتصالات والإنترنت، في سابقة خطيرة لا تتعلق فقط بالبعد الفني، بل تمتد لتشمل أبعادًا إنسانية وأمنية وسياسية وإعلامية.
لقد حُرم سكان غزة من حقهم في الوصول إلى المعلومات، والتواصل مع العالم الخارجي، وتوثيق ما يجري على الأرض، وتسيير حياتهم اليومية في ظروف قاسية، وفي الوقت نفسه، حُرمت منظمات الإغاثة والإعلام والطوارئ من القدرة على أداء مهامها الأساسية.
فهل كان قطع الإنترنت والاتصالات مجرد أثر جانبي للعدوان، أم أداة متعمدة ضمن سياسة أوسع لعزل غزة؟، وما الآثار الإنسانية والحقوقية المترتبة على هذا العزل الرقمي؟
وكيف حاول الفلسطينيون والمنظمات الإنسانية كسر هذا الحصار المعلوماتي؟
ثم، ما مدى إمكانية إيجاد بدائل تقنية مستقبلية لضمان استمرار الاتصالات في مثل هذه الظروف؟
تحاول هذه الورقة تقديم قراءة شاملة لهذه الأسئلة، من خلال استعراض الخلفيات التقنية والسياسية لانهيار البنية التحتية للاتصالات في غزة، وتحليل الأهداف الكامنة وراء ذلك، والآثار الكارثية المترتبة عليه، مع الإشارة إلى المبادرات التقنية والحقوقية التي برزت في محاولة لإعادة ربط غزة بالعالم.
سلسلة انقطاعات الاتصالات والإنترنت في قطاع غزة: عزلٌ ممنهج ومستمر
منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، شهد القطاع سلسلة من الانقطاعات المتكررة والمتنوعة في خدمات الاتصالات والإنترنت، تفاوتت بين انقطاعات شاملة لجميع مناطق القطاع، وانقطاعات جزئية طالت مناطق محددة أو أنواعًا معينة من الخدمات.
أول انقطاع شامل
يُعد الانقطاع الشامل الأول في 29 أكتوبر 2023 الأكثر حدة وامتدادًا، حيث فُصل القطاع بالكامل عن العالم الخارجي لأكثر من 36 ساعة، جراء القصف الإسرائيلي المباشر على المسارات الدولية، ومحطات الأبراج، ونفاد الوقود الذي يغذي المولدات الكهربائية.
عدد وتوزيع الانقطاعات
- وفقًا لتقارير رسمية فلسطينية، تم تسجيل أكثر من 15 انقطاعًا كبيرًا حتى فبراير 2024.
- وثّقت منظمة NetBlocks أكثر من 10 انقطاعات كبرى في البنية التحتية للإنترنت، وأكدت أن بعضها استمر لعدة أيام.
- "Access Now" اعتبرت ما يجري "حالة "إغلاق رقمي ممنهج"، وواحدة من أسوأ حالات الحجب الجماعي للاتصالات في النزاعات المسلحة المعاصرة."
الانقطاعات الجزئية حسب المناطق
- شمال قطاع غزة (جباليا، بيت لاهيا): تعرض لانقطاعات متكررة في الصوت والإنترنت بسبب الاستهداف المباشر للبنية التحتية.
- النصيرات ودير البلح: سجلت فيها فترات انقطاع للإنترنت فقط، مع بقاء بعض شبكات الاتصال الصوتي تعمل جزئيًا.
- رفح: استفاد بعض السكان من قربهم من الحدود المصرية، وتمكنوا من التقاط إشارات من الشبكات المصرية أو استخدام شرائح اتصال غير محلية.
- مناطق المستشفيات والملاجئ: كانت الأكثر تضررًا من الانقطاع التام، ما تسبب في صعوبة تنسيق الاستجابة للطوارئ.
أثر هذه الانقطاعات المتكررة
- لم تكن الانقطاعات مجرد نتيجة للقصف، بل تضمنت تعطيلًا متعمدًا لمسارات الإنترنت الدولية، واستهدافًا دقيقًا لمراكز البنية التحتية، بما في ذلك المقاسم وشبكات الألياف البصرية.
- هذا التكرار في الانقطاع يعزز الرواية بأن الاحتلال يستخدم الاتصالات كسلاح لإرباك الجبهة الداخلية، وفرض التعتيم الإعلامي، وإعاقة عمل المنظمات الإنسانية.
مسؤولية الاحتلال عن قطع الاتصالات: سياسة عزل ممنهجة
لم يكن انقطاع خدمات الاتصالات والإنترنت في قطاع غزة مجرد نتيجة جانبية للعمليات العسكرية، بل جاء ضمن سياسة ممنهجة يتّبعها الاحتلال الإسرائيلي كجزء من أدوات الحرب والسيطرة، وقد عبّر مسؤولون إسرائيليون بشكل صريح عن تبنّي هذا النهج، ما يعزز فرضية التعمّد في عزل القطاع إعلاميًا وإنسانيًا.
في تصريح تلفزيوني رسمي بتاريخ 30 أكتوبر 2023، قال مارك ريجيف، كبير مستشاري رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، خلال مقابلة على قناة MSNBC الأمريكية:
"قطع الاتصالات عن العدو هو أمر متعارف عليه ومتّبع في العمليات العسكرية، ويهدف إلى شلّ قدرته على التنسيق والتواصل."
هذا التصريح أتى بعد ساعات من الانقطاع الكامل الأول للاتصالات في غزة في 29 أكتوبر، ما اعتبره مراقبون تأكيدًا مباشرًا على تورط الاحتلال في فرض هذا الانقطاع بشكل متعمد، سواء عبر القصف المباشر للبنية التحتية أو التحكم في المسارات الدولية التي تمر عبر الكيان الإسرائيلي.
أدلة ميدانية وسياق دولي
- وفق تقرير صادر عن المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان (فبراير 2024)، تم استهداف مباشر لمحاولات مدنيين وصحفيين التقاط الإشارة أو استخدام الإنترنت عبر الشرائح الدولية أو الأقمار الصناعية، عبر القنص أو الطائرات المُسيّرة، ما يشير إلى أن منع الاتصال لم يكن إجراءً عرضيًا بل هدفًا بحد ذاته.
- منظمة Access Now وصفت قطع الإنترنت والاتصالات في غزة بأنه "أحد أخطر أشكال الرقابة الجماعية المستخدمة في مناطق النزاع"، معتبرة أن ما جرى في غزة يمثل "نموذجًا واضحًا لما يُعرف بـ الإغلاق الرقمي كأداة قمع وتعتيم".
- قانونيًا، يُعدّ استهداف البنية التحتية المدنية للاتصالات، أو قطع وسائل الاتصال عن السكان المدنيين في أوقات النزاع، انتهاكًا لاتفاقيات جنيف الرابعة وخرقًا للقانون الدولي الإنساني، خاصة إذا نتج عنه شلل في الوصول إلى الخدمات الإنسانية والطبية.
أهداف العزل الاتصالي
وفق تحليلات لمراكز أبحاث حقوقية وتكنولوجية، فإن الأهداف الرئيسية لهذا العزل تشمل:
- منع التنسيق بين الجهات الإغاثية والطبية داخل غزة.
- حجب توثيق الجرائم والانتهاكات الميدانية.
- فرض التعتيم الإعلامي على العالم الخارجي.
- خلق صدمة نفسية واجتماعية مضاعفة بين السكان المعزولين عن أي اتصال.
- التلاعب بالرواية الإعلامية الدولية عبر احتكار المعلومات.
في هذا السياق، لا يُعد العزل الرقمي مجرد نتيجة لحرب، بل جزءًا لا يتجزأ من أدوات الحرب نفسها، تُستخدم لإخفاء الواقع، ومنع الشهود، وتأخير التدخلات الحقوقية والإنسانية.
واقع البنية التحتية للاتصالات في غزة قبل الحرب: بنية مُقيدة ومُهمّشة
قبل اندلاع الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كانت البنية التحتية للاتصالات في قطاع غزة تعاني من ضعفٍ مزمن واختلالات بنيوية، ناتجة عن سنوات طويلة من الحصار الإسرائيلي والإهمال القسري المفروض على القطاع التكنولوجي في الأراضي الفلسطينية، وهذا الواقع لم يكن نتيجة قصور فني داخلي فحسب، بل نتاج مباشر لسياسات إسرائيلية ممنهجة تقيد تطور القطاع منذ عقود.
القيود التكنولوجية المفروضة
منذ توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، احتفظ الكيان الإسرائيلي بسيطرة كاملة على:
- الطيف الترددي (Radio Spectrum) الذي تحتاجه شبكات الاتصال الحديثة.
- بوابات الربط الدولية (International Gateways)، أي المنافذ التي تربط شبكات الاتصالات الفلسطينية بالعالم الخارجي.
- أذونات استيراد المعدات التقنية اللازمة لتوسيع أو تحديث الشبكات.
وقد منع الكيان الإسرائيلي سلطة تنظيم الاتصالات الفلسطينية من الوصول إلى ترددات الجيل الثالث (3G) والجيل الرابع (4G) لفترة طويلة، ما أدى إلى تأخر قطاع غزة – والضفة الغربية أيضًا – لأكثر من 10 سنوات مقارنة بالدول المجاورة في تقنيات الاتصال.
وفقًا لتقرير البنك الدولي الصادر في مايو 2018، فإن التأخر في إدخال تقنيات 3G و4G في الأراضي الفلسطينية أدى إلى خسائر سنوية تُقدّر بأكثر من 436 مليون دولار في الاقتصاد الرقمي الفلسطيني.
الوضع في غزة تحديدًا
- في حين حصلت شبكات الضفة الغربية على ترددات محدودة لتقنية 3G فقط في أواخر 2017، لم يُسمح لقطاع غزة باستخدام أي من تقنيات 3G أو 4G حتى اليوم.
- نتيجة لذلك، لا تزال الاتصالات في غزة تعتمد على شبكات الجيل الثاني (2G)، التي لا توفر خدمات إنترنت فعالة، وتعاني من ضعف شديد في الجودة والسرعة والموثوقية.
- بحسب تقرير صادر عن وزارة الاتصالات الفلسطينية (2022)، فإن معدل سرعة الإنترنت في غزة لا يتجاوز 2 ميغابت/ثانية، مقارنة بمتوسط عالمي يزيد عن 70 ميغابت/ثانية.
تأثير القيود على الشبكات المحلية
- تسببت هذه القيود في فجوات ضخمة في البنية التحتية لخدمات النطاق العريض (Broadband)، وضعف في التغطية الشبكية في كثير من المناطق، خاصة في مناطق الحدود والمخيمات.
- كما أدى منع استيراد معدات حديثة إلى اعتماد الشبكات على تجهيزات قديمة يصعب صيانتها أو استبدالها، ما جعلها أكثر هشاشة أمام أي تصعيد عسكري.
نتيجة مركبة: عزل رقمي دائم
كل هذه العوامل مجتمعة أنتجت ما يُعرف بـ "العزل الرقمي المُسبق"، أي أن غزة كانت محاصَرة رقميًا حتى قبل الحرب، تعاني من فجوة تكنولوجية حادة مقارنة بباقي العالم، ما جعل الانهيار التام في زمن الحرب نتيجة حتمية، لا مفاجأة.
استهداف ممنهج للبنية التحتية للاتصالات أثناء الحرب
منذ الساعات الأولى لاندلاع الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تعرّضت البنية التحتية للاتصالات في قطاع غزة لتدمير واسع النطاق ومقصود، حيث استهدفت قوات الاحتلال الإسرائيلي المواقع والمراكز التقنية بشكل مباشر ومتكرر، ما أدى إلى انهيار شبه كامل في القدرة الاتصالية للقطاع، في واحدة من أسوأ الأزمات الرقمية التي يشهدها إقليم خاضع لحرب منذ بداية القرن.
حجم الدمار بالأرقام
وفق تقرير مشترك صادر عن جهاز الإحصاء الفلسطيني ووزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الفلسطينية في فبراير 2024:
- تم استهداف 841 برجًا تابعًا لشركات الاتصالات الخلوية في غزة.
- خرج نحو 75% من هذه الأبراج عن الخدمة بفعل الاستهداف المباشر أو نتيجة انقطاع الكهرباء.
- تعرض 50% من البنية التحتية للاتصالات لتدمير كامل.
- بلغت الخسائر الإجمالية في قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والبريد نحو 223 مليون دولار خلال أول ستة أشهر من الحرب.
أنماط الاستهداف الإسرائيلي
تؤكد المعطيات أن الاستهداف لم يكن عشوائيًا، بل اتبع نمطًا ممنهجًا شمل:
- أبراج الاتصالات المحمولة: خصوصًا في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية، مثل مدينة غزة ورفح وخان يونس، مما أدى إلى فقدان التغطية في فترات حرجة.
- مراكز الألياف البصرية الأرضية: التي تنقل البيانات الدولية وتربط شبكات غزة بالعالم.
- مولدات الطاقة الكهربائية وشبكات التوصيل الأرضية: ما تسبب في توقف عمل المقاسم المركزية.
- المنشآت التقنية المدفونة تحت الأرض: التي تمر من خلالها خدمات الإنترنت السريع والربط مع الضفة الغربية والكيان الإسرائيلي.
استهداف الأفراد أثناء محاولتهم الاتصال
في 13 فبراير 2024، أصدر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان تقريرًا وثّق فيه استهدافًا مباشرًا لمواطنين وصحفيين أثناء محاولتهم الاتصال بالإنترنت أو استخدام شرائح دولية أو إلكترونية (eSIM)، حيث تم رصد:
- حالات قنص مباشر لأشخاص حاولوا استخدام هواتفهم في مناطق مفتوحة للحصول على إشارة.
- هجمات من طائرات مُسيّرة ضد أفراد حاولوا الوصول إلى معدات بث أو أقمار صناعية.
- استهداف مركبات إعلامية وطواقم صحفية كانت تستخدم أجهزة بث عبر الأقمار الصناعية.
وقد اعتبر المرصد هذه الانتهاكات بمثابة "اعتداء مزدوج": على الحق في الحياة من جهة، وعلى الحق في حرية التعبير والوصول إلى المعلومات من جهة أخرى.
سياق قانوني وإنساني
بحسب القانون الدولي الإنساني، يُعد استهداف البنية التحتية المدنية، خاصة تلك المرتبطة بالخدمات الأساسية كالاتصالات، جريمة حرب إذا كان لا يخدم غرضًا عسكريًا مباشرًا أو يسبب أضرارًا مفرطة للسكان المدنيين.
كما تنص المادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف على تحريم مهاجمة الأعيان التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين، وتشمل هذه المرافق: المياه، الغذاء، الطاقة، والاتصالات.
أثر انقطاع الاتصالات والإنترنت على الحياة المدنية والإنسانية
1. عزلة إنسانية شديدة وتعطيل للقطاعات الحيوية
أدى الانقطاع المتكرر للاتصالات والإنترنت – الذي سُجّل أكثر من 15 مرة حتى فبراير 2024 بحسب وزارة الاتصالات الفلسطينية – إلى شلل شبه كامل في قدرة المؤسسات المدنية والإنسانية على أداء وظائفها، بما في ذلك:
- الطواقم الطبية والإسعافية التي لم تتمكن من الاستجابة للنداءات أو التنسيق مع المستشفيات.
- الهلال الأحمر الفلسطيني أعلن في بيانات رسمية فقدان الاتصال بغرفة العمليات والطواقم الميدانية خلال أعنف موجات القصف، لا سيما في شمال قطاع غزة، ما جعل التواصل مع خدمة الطوارئ 101 مستحيلاً.
- المنظمات الإنسانية المحلية والدولية علّقت بعض عملياتها في مناطق متضررة بسبب فقدان الاتصال الآمن بين الفِرق ومراكز الإمداد.
بحسب منظمة أطباء بلا حدود (MSF)، فإن “انقطاع الاتصال يمنع حتى معرفة مواقع الجرحى والمناطق المستهدفة، ويزيد من الوقت اللازم للوصول إليهم، مما يؤدي إلى وفيات كان من الممكن تجنّبها”.
2. تعتيم إعلامي ممنهج ومنع توثيق الانتهاكات
أسهم انقطاع الإنترنت في فرض تعتيم إعلامي مقصود حال دون تمكّن الصحفيين والمواطنين من توثيق الهجمات والانتهاكات، وبحسب منظمة "Access Now"، فإن قطع الإنترنت في غزة يُعدّ من بين أسوأ حالات "الإغلاق الرقمي الحربي" في العالم خلال العقد الأخير.
قال وصفي الصفدي، خبير الاتصالات الفلسطيني:
"الهدف من قطع الإنترنت هو عزل غزة بالكامل عن العالم، وإخفاء حجم المجازر بحق المدنيين، وإتاحة الوقت لفبركة الأخبار وإعادة رسم الرواية الإعلامية من قبل الاحتلال."
وشهدت منصات التواصل انخفاضًا كبيرًا في المحتوى الوارد من غزة خلال فترات الانقطاع، الأمر الذي أثار انتقادات من مؤسسات حقوقية طالبت بتحرك دولي لضمان استمرارية تدفق المعلومات.
3. توقف النشاط الإغاثي والاجتماعي وتعميق الكارثة الإنسانية
أدى الانقطاع إلى شلل في الأنشطة الإغاثية، حيث توقفت عمليات توزيع المساعدات، وانعدمت القدرة على التنسيق اللوجستي مع الشركاء المحليين والدوليين، خاصة في المناطق المنكوبة.
أشارت هيومن رايتس ووتش إلى أن غياب الاتصالات يزيد من تعقيد إيصال الغذاء والدواء والوقود، ويحوّل السكان إلى "جزر معزولة بلا قدرة على طلب المساعدة أو الاستغاثة".
وأكّد تقرير لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) أن “الانقطاعات المتكررة فاقمت من مأساة النزوح، وأفشلت جهود الإخلاء الطبي، وأضعفت آليات الإنذار المبكر في مناطق العمليات العسكرية”.
محاولات محدودة لكسر العزلة الرقمية
رغم القيود الهائلة، حاولت شركات الاتصالات الفلسطينية تقديم حلول بديلة لتأمين قدر من الخدمة:
- توفير باقات اتصال مجانية للمواطنين خلال فترات التوقف.
- تشغيل بعض المحطات بمولدات سولار متنقلة.
لكن هذه الجهود انهارت بسرعة مع نفاد الوقود ومنع إدخاله من قبل قوات الاحتلال، ما جعل الحلول مؤقتة ومحدودة الأثر.
محاولات فردية للاتصال
تمكّن بعض الصحفيين والنشطاء من اختراق العزلة الرقمية عبر وسائل غير تقليدية:
- استخدام شرائح إلكترونية دولية (e-SIM) متصلة بشبكات خارجية.
- الاعتماد على شبكات الهواتف التركية أو الإسرائيلية في حالات نادرة.
- التقاط إشارات من الشبكات المصرية في رفح.
- استخدام أجهزة الاتصال بالأقمار الصناعية، والتي يمتلكها عدد محدود جدًا من الصحفيين أو العاملين مع وكالات دولية.
مبادرة "ستارلينك" والأمل المحاصر
مع تصاعد الأزمة، أطلق ناشطون حول العالم وسم #StarlinkForGaza للمطالبة بتوفير اتصال إنترنت عبر الأقمار الصناعية لسكان غزة، مطالبين إيلون ماسك – مالك شركة SpaceX المشغّلة لنظام ستارلينك – بالتدخل.
ما هو ستارلينك؟
- نظام فضائي للاتصال بالإنترنت يعتمد على آلاف الأقمار الصناعية في مدار منخفض لتوفير إنترنت عالي السرعة دون الحاجة إلى بنية تحتية أرضية.
- يتطلب جهاز استقبال (طبق وراوتر) بتكلفة تفوق 500 دولار، بالإضافة إلى اشتراك شهري يفوق 100 دولار.
- إدخال المعدات إلى غزة يحتاج إذنًا إسرائيليًا، ما يجعل التنفيذ حاليًا شبه مستحيل.
بحسب مسؤولين في الأمم المتحدة، فإن "توفير الإنترنت عبر ستارلينك لغزة ممكن تقنيًا لكنه محاصر سياسيًا، ولن يُتاح إلا بشكل محدود ولمنظمات دولية، وفي ظروف أمنية نادرة".
قطع الاتصال = منع التوثيق
قال الخبير في الإعلام الرقمي، إبراهيم الهندي:
"منصات التواصل الاجتماعي أصبحت وسيلة رئيسية لتوثيق المجازر، قطع الإنترنت يمنع هذا التوثيق ويمنع إيصال الرواية الفلسطينية إلى العالم."
وأضاف:
"في سياق مثل غزة، الاتصال بالإنترنت هو وسيلة بقاء وليس ترفًا... إنه شريان حياة بين المصاب والطبيب، وبين الشاهد والمجتمع الدولي."
وقد أكدت تقارير منظمات مثل Reporters Without Borders وCommittee to Protect Journalists أن قطع الاتصال في غزة يمثل تهديدًا مباشرًا لحرية الصحافة وحقوق الإنسان.
نتائج كارثية لاستمرار قطع الاتصالات
تتراوح آثار قطع الاتصال بين ما هو إنساني وأمني وإعلامي ونفسي، وتشمل:
- شلل المؤسسات الصحية والإنسانية، وتعطيل الإغاثة والإخلاء.
- منع التوثيق الميداني للجرائم والانتهاكات، ما يُفقد الضحايا حقهم في الشهادة.
- ارتفاع معدلات الوفيات نتيجة العجز عن طلب المساعدة أو تحديد مواقع الضحايا.
- عزلة نفسية واجتماعية حادة تزيد من الضغط الجماعي والقلق.
- تشويه الحقيقة واحتكار السرد الإعلامي من طرف الاحتلال، في ظل غياب الصوت المحلي.
تحديات إعادة إعمار قطاع الاتصالات
تكلفة مبدئية ضخمة، وصعوبات ميدانية مستمرة
بحسب تقرير مشترك صادر عن البنك الدولي والأمم المتحدة (مارس 2024)، قُدّرت تكلفة إعادة إعمار قطاع الاتصالات في غزة بنحو 90 مليون دولار.
لكن هذا التقدير لا يشمل الأضرار العميقة التي لحقت بالبنية التحتية المدفونة تحت الأرض، بسبب صعوبة الوصول إليها في ظل استمرار العدوان والمخاطر الأمنية.
أبرز التحديات:
- استمرار الحصار الإسرائيلي، ومنع إدخال معدات الاتصالات.
- انعدام التمويل الدولي الكافي، بسبب الأولويات المتنافسة في جهود الإغاثة.
- افتقار البنية التحتية للمرونة والصمود في وجه الحروب والكوارث، ما يستدعي التفكير في نموذج جديد للشبكات يعتمد على التوزيع واللامركزية.
الخلاصة
لقد بيّنت هذه الورقة أن قطع الاتصالات والإنترنت عن قطاع غزة خلال الحرب لم يكن مجرد أثر جانبي للعمليات العسكرية، بل أداة استراتيجية مدروسة للعزل والسيطرة والتعتيم، فالاحتلال الإسرائيلي، عبر استهداف ممنهج للبنية التحتية التقنية، وتعطيل متكرر للربط الدولي، سعى إلى حرمان الفلسطينيين من حقهم في التواصل، والتوثيق، وطلب النجدة، وسرد روايتهم أمام العالم.
أثبتت الوقائع أن فقدان الاتصال لا يعني فقط العزلة الرقمية، بل يقود إلى نتائج إنسانية كارثية: من شلل المؤسسات الطبية والإغاثية، إلى منع التوثيق الصحفي، وتفتيت الروابط الاجتماعية والنفسية لسكان يعيشون في واحدة من أكثر المناطق كثافة وفقراً وتعرضاً للقصف.
وفي ظل هذا الواقع، يصبح الاتصال ليس رفاهية رقمية، بل أداة للنجاة، وشكلًا من أشكال المقاومة المدنية، يُمكّن المواطنين من إثبات وجودهم، وتوثيق معاناتهم، والتفاعل مع شبكات الدعم الإنساني والإعلامي عالمياً.
إن حماية البنية التحتية للاتصالات في غزة ليست مجرد قضية تنموية، بل ضرورة حقوقية وأخلاقية، تتطلب تدخلًا دوليًا عاجلًا لضمان عدم تكرار هذا العزل القسري، ولتمكين الفلسطينيين من البقاء، ليس فقط على قيد الحياة، بل على قيد الصوت والحقيقة.
توصيات المركز
- الضغط الدولي لوقف استهداف البنية التحتية للاتصالات، ودعوة الأمم المتحدة، ومجلس حقوق الإنسان، والاتحاد الدولي للاتصالات (ITU) لتحميل الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية القانونية عن استهداف شبكات الاتصالات، واعتبار ذلك خرقًا واضحًا للقانون الدولي الإنساني.
- إلزام الاحتلال بعدم استهداف أو تعطيل وسائل الاتصال الأساسية، بموجب اتفاقيات جنيف، وضمان استمرارها في خدمة المدنيين والمنظمات الإنسانية والطبية.
- توفير حلول بديلة للطوارئ ودعم نشر شبكات اتصالات طارئة متنقلة Mobile Emergency Networks بالتعاون مع وكالات الإغاثة، وتمكين وصول محدود وخاص لخدمات الإنترنت الفضائي مثل (ستارلينك) للمنظمات الطبية والإعلامية المعتمدة.
- رفع القيود التكنولوجية عن قطاع غزة ومطالبة المجتمع الدولي والجهات المانحة بالضغط على الاحتلال لإنهاء القيود المفروضة على الطيف الترددي واستيراد معدات الاتصالات، وتمكين شركات الاتصالات الفلسطينية من الوصول إلى تقنيات الجيل الرابع والخامس.
- تبني استراتيجية لإعادة إعمار قطاع الاتصالات في غزة تركز على: اللامركزية: تقليل الاعتماد على نقاط رئيسية قابلة للتدمير، والمرونة: استخدام بنى تحتية قابلة للنقل والنشر السريع، والطاقة البديلة: تعزيز استخدام الطاقة الشمسية في تشغيل المحطات الأساسية.
- دعم حقوق الفلسطينيين الرقمية وتوثيق الانتهاكات الرقمية في غزة ضمن تقارير الحقوق الرقمية العالمية مثل تقارير Access Now، وDigital Rights Watch، ودمج قضية الحق في الاتصال والمعلومات ضمن أجندات الدفاع عن حقوق الإنسان في فلسطين.